الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان ذلك جمعًا ناسب التشديد المراد به الكثرة في {مشيّدة} أي مطولة، كل واحد منها شاهق في الهواء منيع، وهو مع ذلك مطلي بالشيد أي بالجص، فلا خلل فيه أصلًا، ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان، يعني أنها مبالغ في تحصينها- لأن السياق أيضًا يقتضيه، فإذا كان لابد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولى من أن يكون في غيره.ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها في قوله: {ربنا لم كتبت} [النساء: 77] إلى آخره وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين، ويجوز أن يقال: إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر أتبع ذلك حالًا لهم مبكتًا به لمن توانى في أمره، مؤذنًا بالالتفات إلى الغيبة إعراضًا عن خطابهم ببعض غضب، لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله تعالى الإخلال بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ليطاع بإذن الله فقال: {وإن} أي قالوا ذلك والحال أنه إن {تصبهم} أي بعض المدعوّين من الأمة، وهم من كان في قلبه مرض {حسنة} أي شيء يعجبهم، ويحسن وقعه عندهم من أي شيء كان {يقولوا هذه من عند الله} أي الذي له الأمر كله، لا دخل لك فيها {وإن تصبهم سيئة} أي حالة تسوءهم من أي جهة كانت {يقولوا هذه من عندك} أي من جهة حلولك في هذا البلد تطيرًا بك.ولما كان هذا أمرًا فادحًا، وللفؤاد محرقًا وقادحًا، سهل عليه بقوله: {قل كل} أي من السيئة والحسنة في الحقيقة دنيوية كانت أو أخروية {من عند الله} أي الذي له كل شيء، ولا شيء لغيره، وذلك كما قالوا لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار رضي الله تعالى عنه عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم- كما في السيرة-: «بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان نبيًا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئًا».ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك، فاستحقوا الإنكار قال منكرًا عليهم: {فما} وحقرهم بقوله: {لهؤلاء} وكأنه قال: {القوم} الذي هو دال على القيام والكفاية، إما تهكمًا بهم، وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان وضعف المكان {لا يكادون يفقهون} لا يقربون من أن يفهموا {حديثًا} أي يلقي إليهم أصلًا فهما جيدًا. اهـ.
وقرأ طلحة بن سليمان {يُدْرِكُكُم} برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله: أراد فالَّله يشكرها.واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البُرُوج، فقال الأكثر وهو الأصح: إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المَبْنِيّة، لأنها غاية البَشَر في التحصُّن والمنعة، فمثّل الله لهم بها.وقال قتادة: في قصور محصَّنة.وقاله ابن جُريج والجمهور، ومنه قول عامر بن الطُّفيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومَنَعة؟ وقال مجاهد: البروج القصور.ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع.ومعنى {مُّشِيَّدٍة} مطوَّلة، قاله الزجاج والقُتَبي.عِكرِمة: المزيّنة بالشِّيدِ وهو الجِص.قال قتادة: محصّنة.والمُشَيَّد والمَشِيد سواء، ومنه {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] والتشديد للتكثير.وقيل: المُشَيَّد المُطَوَّل، والمَشِيد المَطْليّ بالشّيد.يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره.وقال السُّدِّي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية.وحكى هذا القول مَكِّيّ عن مالك وأنه قال: ألا ترى إلى قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] و{جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} [الفرقان: 61] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا} [الحجر: 16].وحكاه ابن العربيّ أيضًا عن ابن القاسم عن مالك.وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: {فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} معناه في قصور من حديد.قال ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ. اهـ.
وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم، وقيل: هو مؤخر من تقديم، وجواب الشرط محذوف أي يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبًا له كما في قوله: أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط، وأجيب بأن الشرط الأول: وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضًا الإطلاق، والشرط الثاني: لم يعول عليه المحققون، وقيل: إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيًا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيًا والجزاء مضارعًا إنما يحسن في كلمة أن لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن أينما كنتم يدرككم الموت إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر، نعم يرد عليه أن فيه تعسفًا إذ التوهم كما قال ابن المنير أن يكون ما يتوهم هو الأصل، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل، وما توهم هنا ليس كذلك، وقيل: إن {يُدْرِككُّمُ} كلام مبتدأ و{أَيْنَمَا تَكُونُواْ} متصل بـ {لاَ تُظْلَمُونَ} [النساء: 77]، واعترض كما قال الشهاب: بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة، أما الأول: فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن {لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم، وأما الثاني: فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته، وأجيب عن الأول: بأنه لا مانع من تعميم: ولا تظلمون للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئًا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود وبه ينتظم الكلام، وعن الثاني: بأن المراد من الاتصال بما قبله كما قال الحلبي والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملًا على أن {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} شرط جوابه محذوف تقديره: لا تظلمون وما قبله دليل الجواب، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع.{وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ} أي قصور، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا، وقيل: المراد بها بروج السماء المعلومة، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها الحصون والقلاع وهي جمع ج، وأصله من التبرج وهو الإظهار، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها {مُّشَيَّدَةٍ} أي مطلية بالشيد وهو الجص قال عكرمة أو مطولة بارتفاع قاله الزجاج فهو من شيد البناء إذا رفعه؛ وقرأ مجاهد {مُّشَيَّدَةٍ} بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة {مُّشَيَّدَةٍ} بكسر الياء على التجوز كـ {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} وقصيدة شاعرة، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج ولو كنتم إلخ، وقد اطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة. اهـ.
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم اجمع أمة محمد، ثم تمثل بقول الشاعر: . اهـ.
|